كثيرًا ما بررت البلدان النامية الإنفاق العسكري المرتفع على أساس أنه يوفر رادعًا فعالاً ضد التدخل، ويكسبها الاحترام في الساحة الدولية. وكانت تشير أيضًا إلى أن الصناعة العسكرية مصدر هام للعمالة وللنواتج التكنولوجية من أجل الصناعة المدنية. لكن تقرير التنمية البشرية للعام 1994 أشار إلى “أن البلدان التي تنفق القليل على الدفاع والكثير على التنمية البشرية كانت أكثر نجاحًا في الدفاع عن سيادتها الوطنية من تلك التي تنفق بإفراط على التسلح”، وأن “الإنفاق على التسلح يقوض الأمن البشري، أي أنه يلتهم الموارد الثمينة التي كان يمكن استخدامها في أغراض التنمية البشرية (1). كما جاء في تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة،( اليونيسف)، أن الأموال التي تم إنفاقها على الأسلحة كان يمكن أن توضع في استخدامات أفضل بكثير، فلو تمّ تحويل جزء ضئيل من الموارد المخصصة لبناء القدرة العسكرية في سبيل تحقيق الأهداف الإنمائية الأساسية، لكنا عشنا في عالم تقل فيه المشاكل الاجتماعية والبيئية والحروب المدمرة (2). فقد أشار برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في تقرير التنمية البشرية للعام 1997، إلى أن مبلغ 80 مليار دولار سنويًا بين العامين 1995 و2005 يكون كافيًا لتقديم الخدمات الاجتماعية الأساسية لكل الناس في البلدان النامية وإخراجهم من الفقر المدقع. وهذا الرقم، لا يمثل سوى 10% فقط من الإنفاق العسكري في العالم أجمع. إن القضاء على الفقر هو في حدود القدرات البشرية، والعائق الحقيقي يكمن في قلة الموارد، ولكن عدم التوازن في التوزيع وعدم وجود الالتزام السياسي: هكذا يتم إيجاد الظروف التي تؤدي إلى ظهور تهديدات جديدة، والتي بدورها، تعزز الحجج المؤيدة لتطوير أجيال جديدة من الأسلحة، التي تستنفد المزيد من الموارد المتاحة(3). مع العلم أنه في الوقت الذي تتم فيه مبيعات الأسلحة، إلى حد كبير، من أجل حيازة أجهزة باهظة الثمن مثل الغواصات أو الطائرات المقاتلة المتطورة، فإن الكثير من الضرر الذي يحصل الآن يتم باستخدام الأسلحة الخفيفة والصغيرة(4).
مع نداء لاهاي للسلام في العام 1999، دخلت الأمم المتحدة الألفية الجديدة التي خصصتها للتنمية الاجتماعية والسلام لجميع الأمم. ولكن مع بدء تنفيذ أهداف الألفية للتنمية، أخذت الموازنات العسكرية تتزايد دافعة بذلك المساعي في تحقيق السلام أو الحفاظ عليه بواسطة تنمية إقتصادية عادلة. فقد ازدادت النفقات العسكرية العالمية في السنوات الأخيرة بصورة مطردة وصلت إلى 37%بين العامين 1997 و2006. هذه الزيادة في الإنفاق العسكري العالمي تشكل تهديدًا متزايدًا لبقاء الإنسان. ملايين من الناس يموتون كل عام بسبب سوء التغذية والأمراض التي نعرف كيفية علاجها بسهولة، والعوز المطلق ومعاناة سببتها الحروب أو الكوارث المناخية. والآخرون الذين يتمتّعون بوضع أفضل، يعانون انعدام الأمن والبطالة وظروف سكن صعبة، وكثيرًا ما يحرمون الرعاية. إن الأهداف الإنمائية للألفية التي حددتها الأمم المتحدة ووافق عليها جميع رؤساء الدول تعتزم خفض الفقر إلى النصف في غضون عشر سنوات. وبعد أن كنا بحاجة إلى 80 مليار سنويًا (بين العامين 1995و2005) للسير في الطريق الصحيح وانتزاع الغالبية العظمى من السكان من آفة الفقر، أصبحنا العام 2007 بحاجة إلى تخصيص 135 مليار دولار سنويًا؛ وهذه القيمة ما زالت لا تتعدى نسبة 10% من النفقات العسكرية(5). ولكن من بواعث الخطأ أن يُنتظر من التخفيضات في الإنفاق العسكري أن تتحول بسرعة إلى مكسب ملموس من مكاسب السلام، واعتبارها وفورات لم تكن متوقعة بالمرة، وأنه من الممكن تحويلها إلى استخدامات بديلة. فالإنفاق العسكري يتزايد عند وجود، أو عند توقع وجود تهديدٍ ما، وعند اندلاع الأعمال الحربية بالفعل، أو عندما تسمح الأحوال الاقتصادية العامة بذلك. ويتناقص عندما يتقلص التهديد المتوخى أو عندما تنهار الأحوال الاقتصادية(6).
وقد رأى عالم الاقتصاد فونتانيل، أنّ أي تخفيض للإنفاق العسكري لا يؤدي إلى تحسّن فوري في الوضع الاقتصادي الوطني. فإذا تمكنا من تحويل النفقات العسكرية إلى أشكال أخرى من النفقات العامة أو الخاصة، فإنّ المصانع والمعدات والناس المتضررة من الأمن الوطني من المرجح أن تواجه عقبات كبيرة في التحول، وحتى بالنسبة إلى الشركات ذات الإنتاج المزدوج (عسكري أم لا)، فإنها ستواجه مشاكل مالية حادّة، تهدد القدرة التنافسية للمنتجات المخصصة للقطاع المدني. إنّ الاستعاضة عن الإنفاق العسكري لمصلحة الإنفاق المدني، لا يسمح بالتمويل السريع لرأس المال الضروري للحفاظ على وظائف أصبحت غير مستقرة بسبب قدم أو عدم تكيّف المرافق المخصصة لإنتاج الأسلحة. وبالتالي، يجب التزام ليس التحويل المربح للمواد الموجودة فحسب، ولكن أيضًا إعادة الاستثمار وتطوير أنشطة جديدة وإيجاد فرص جديدة. وأن الجهد الاقتصادي الضروري لإنقاذ الشركات المتضررة وتمكينها من البقاء إقتصاديًا ينبغي أن يتجاوز، على المدى القصير، أهمية تقييد الجهد العسكري(7).
إنّ الإفراط في التسلّح والإنفاق العسكري يمكن أن يكون له أثر سلبي على التنمية، ويحوّل الموارد المالية والتكنولوجية والموارد البشرية بعيدًا عن أهداف التنمية. ولكن قد لا يكون التسلح في حد ذاته السبب الرئيس للعنف والصراع. غير أن انتشاره وتوافره يمكن أن يشكّلا خطراً على السلامة العامة، والاستقرار والرفاه، ويقلّلا من الثقة الاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي لا يشجّع على الاستثمار والتنمية الاقتصادية مما يجعله يساهم في دورة الفقر والتخلف والبؤس. وعلى الجانب الآخر، وإن كان غالبا ما ينظر إلى عملية نزع السلام على أنها عامل من عوامل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فهي لا تؤدّي بالضرورة إلى التنمية. وليس هناك شك في أن نزع السلاح يمكن أن يساعد في خلق أجواء دولية ووطنية ومحلية أكثر استقرارًا وانسجامًا مع التنمية. ومع ذلك ، يمكن للمرء أيضًا تصوّر الظروف التي يكون فيها نزع السلاح متاحًا، أن يحد من ضعف قدرة الدولة على الدفاع عن نفسها وعن شعبها ضد العدوان الداخلي أو الخارجي، أو التي يظهر فيها التأثير السلبي للتكاليف المالية الباهظة لنزع السلاح على التنمية في المدى القصير. إنّ العلاقة بين نزع السلاح والتنمية تتجلى بطرق مختلفة وفي حالات مختلفة ، تعتمد على الأمن وأولويات التنمية والظروف السائدة في كل بلد أو منطقة(8). إن فوائد نزع السلاح لا تتحقق بين عشية أو ضحاها: فمن الواجب أن ينظر إلى نزع السلاح بوصفه عملية إستثمارية، تقتضي تحمّل التكاليف الراهنة من أجل تحقيق مزيد من المكاسب في المستقبل. ونزع السلاح يتطلّب في حد ذاته تكبد تكاليف مباشرة. فاستحقاقات البطالة ينبغي أن تدفع لأعضاء القوات المسلحة المسرحين والعاملين الزائدين عن الحاجة في صناعات الدفاع. كما أن ثمة تكاليف لا بد من تحملها من أجل تدمير الأسلحة والتحقق من تطبيق اتفاقات الحد من الأسلحة. واستحداث إستخدامات بديلة للأموال الحكومية، قد يتضمّن في حد ذاته تكلفة إستثمارية مبدئية. وعلى سبيل المثال، وفي حالة النفقات التعليمية والصحية، يلاحظ أنه قد يتعيّن بناء المدارس والمستشفيات والمستوصفات وتدريب المدرسين والأطباء والاختصاصيين الاجتماعيين من أجل رصد النفقات بشكل دائم. وهذا يعني، بعبارة أخرى، أن إنفاق مكاسب السلام لا يتضمن مجرد تحويل الأموال من بند لآخر(9)، ومن الأنسب الحديث عن الاستثمار في السلام(10). والواقع أن الدول الصناعية، مع نهاية الحرب الباردة، وفرت خلال الفترة 1987 – 1994، حوالى 810 بلايين دولار كمبلغ تراكمي، بينما وفرت الدول النامية 125 بليون دولار. وإنما كان من الصعب تتبع أوجه إنفاق هذه الأموال. ولم تكن هناك صلة واضحة بين الإنفاق العسكري المنخفض والإنفاق المعزز على التنمية، إذ يبدو أن معظم الوفورات إستخدم في خفض العجز في الموازنات وفي النفقات غير الإنمائية، بدلاً من إنفاقها في التنمية الاجتماعية أو في التحسينات البيئية. ومن المثبط للهمم أنه مثلما كانت البرامج الاجتماعية والبشرية تنحى جانبًا في وقت تصاعد الموازنات العسكرية، فقد استمر تجاهلها حتى عندما يجري تخفيض النفقات العسكرية(11). “إن التغيّرات في الإنفاق الاجتماعي لا تتحدد بمجرد توافر موارد ما نتيجة تحريرها من جراء تخفيض بنود أخرى من الإنفاق الحكومي، بما فيها بند الإنفاق العسكري، بل أنها تحدد بناء على عوامل طويلة الأجل، من قبيل التغيرات في تكوين السكان. والعملية السياسية تساعد أيضًا في تحديد الدور الذي يمكن، أو ينبغي، للحكومة أن تضطلع به في ميدان الرفاه الاجتماعي”(12). “إن خفض الإنفاق العسكري يمثل نصف المهمة المطلوبة فقط؛ فتحقيق تحسن حقيقي في الأمن البشري يتطلب تسخير الموارد الموفرة – أي عائد السلام – تسخيرًا كاملاً من أجل التنمية”(13). إلا أنه لا يوجد قرار حكومي يمكن اعتباره وحده إنه أفضل القرارات وأولها في ما يتصل بكيفية إعادة رصد الموارد التي يفرج عنها نتيجة خفض النفقات العسكرية. ومثل هذا التحليل يتطلب القيام بتحليل لكل بلد على حدة مع إجراء دراسة تفصيلية للمزايا الاقتصادية الطويلة الأجل التي ستترتب على الأنواع المختلفة للإنفاق – الاستثمار الحكومي في الهياكل الأساسية أو الإنفاق العسكري أو الاستثمار من جانب دوائر التجارة والصناعة. ففي البلدان السريعة النمو، ولاسيما دول جنوب شرق ?سيا، كثيرًا ما زادت من إنفاقها العسكري بالمعدلات الحقيقية، ولكن هذا الإنفاق كان ينخفض كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي. بيد أن الإنفاق العسكري المتزايد، الذي يشكل حصة متناقصة من اقتصاد متنام من شأنه أن يفرض عبئًا أخف من ذلك العبء الذي يمثله ارتفاع حصة موارد المجتمع المستخدمة في أغراض الدفاع عندما يكون الاقتصاد ?خذًا في الهبوط أو الكساد(14).
إنّ كثرة استخدام مصطلح عائد السلام بعد نهاية الحرب الباردة، يشير إلى أن كثيرًا من الناس إعتقدوا بوجود علاقة بين تخفيض الإنفاق العسكري وزيادة الأداء الاقتصادي. وعلى الرغم من أن الاحتمال في تحقيق أي عائد سلام يعتمد في النهاية على كم، ومتى ، وما نوع الإنفاق العسكري الذي سيُخفّض، وما هي الاستخدامات البديلة التي ستستخدم فيها هذه الموارد، فمن الواضح أنه، عندما انخفض خطر الحرب، توقع العديد أن أعباء الدفاع ستتقلّص، وأن ذلك سيكون له تأثير إيجابي على الأداء الاقتصادي(15). إلا أن مدى الارتباط بين الإنفاق الاجتماعي ومعدل النمو وأيضًا بين الإنفاق الاجتماعي والإنفاق العسكري من جهة أخرى لم يكن واضحًا في معظم البلدان النامية. وهذا ما يؤدي إلى التفكير في أنه حتى لو تمّ تخفيض الإنفاق العسكري، فإن احتمالات تحقيق عوائد السلام في أعقاب الحرب الباردة قد يتمّ إعاقتها من قبل المصالح السياسية التي تعارض الزيادة في نفقات القطاع الاجتماعي. وعلى ذلك، فإن التخفيض من نفقات الدفاع لن تؤدي إلى الرفاه المفاجئ كما يتم افتراضه عموما(16).
غالبًا ما يعبّر عن العلاقة بين الإنفاق العسكري والإنفاق الاجتماعي أو التنموي بتكلفة الفرصة البديلة (Opportunity Cost) التي تدل على العلاقة بين الندرة والاختيار. ويتضمن الاختيار الرفض أو انتقاء البدائل. وتكلفة الفرصة البديلة هي القيمة التي تم التضحية بها من أجل ضمان الحصول على بديل معين(17). إن التعريف الكلاسيكي لتكلفة الفرصة البديلة في الموازنات الحكومية يتمثل في معضلة “السلاح مقابل الزبدة” أو “السلاح مقابل الخبز”. وتُصوّر هذه المعضلة الإنفاق العسكري والإنفاق في مجالات الرعاية الاجتماعية كأنهما يتصلان بعضهما بالبعض الآخر بعلاقة ارتباط عكسية. فعندما تزيد النفقات العسكرية في دولة ما، تتضرّر مجالات الرعاية الاجتماعية (18). أما بالنسبة إلى الكثيرين فالمنطق واضح: فلو استمرت التخفيضات العالمية في النفقات العسكرية، لشهدنا تعزيزًا وتحسنًا شبه عالمي في النمو الاقتصادي والرفاه البشري، ويكون بالتالي، خيار “السلاح أو الزبدة” هو واحد لا لبس فيه لصالح تخفيض الإنفاق العسكري. ولكن لا تزال الروابط بين الإنفاق العسكري والنمو الاقتصادي معقدة، والبعض يجادل في أن تعبير “السلاح والزبدة” يصف بشكل أفضل هذه العلاقة(19).
إن الحالة النظرية للإنفاق العسكري هي موضوع جدل كبير. بالنسبة إلى البعض، إن ما يتم استثماره في الدفاع، من أجل الحفاظ على الأمن والحرية الوطنية وتوفير أنشطة جديدة بإمكانات تكنولوجية عالية، هو عامل يحفز التنمية الاقتصادية. بالنسبة إلى البعض ا?خر إن سباق التسلح يضعف اقتصادات العالم الثالث ، يستنزف الموارد النادرة لغايات غير منتجة، ويخلق شروطًا غير متعادلة تؤدي إلى سيطرة الدول المتقدمة وهيمنة على الدول النامية وإلى تدهور شروط التبادل التجاري في الدول الفقيرة(20).
لقد تمت معاينة عملية المقايضة هذه في الدراسات التجريبية التي قام بها باحثون مثل راسيت وغاتيل وبريور، وغيرهم. في حين أن هؤلاء الباحثين وجدوا في دراساتهم ما يدعم عمومًا نظرية تكاليف الفرص الضائعة، فإن عددًا من النقاد أثار بعض الأسئلة المنهجية والموضوعية بشأن مدى كفاءة هذه الدراسات(21). و على الرغم من انتشار الدراسات حول تأثير الإنفاق العسكري على النمو الاقتصادي، فإنه لا يزال من غير المعروف ما إذا كان الإنفاق على الدفاع يعيق أو يشجّعه النمو (22).
إنّ الحجج الرئيسة التي أشارت إلى علاقة إيجابية يمكن تلخيصها على النحو التالي:
– إنّ الإنفاق العسكري يخلق الأمن، الذي يسمح للعاملين في القطاع الاقتصادي الخاص بتنفيذ الأنشطة الاقتصادية المنتجة من دون خوف من الاعتمادات الأجنبية.
– في كثير من البلدان، يخصص جزء من الإنفاق العسكري لنشاطات البحث والتطوير. وإن البحث والتطوير العسكري يؤديان لاحقًا إلى ابتكارات يمكن تطبيقها في القطاع المدني، وبالتالي زيادة الإنتاجية والدخل، إذ إن جزءًا من النمو الكبير في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، يعزى في كثير من الأحيان إلى الاختراعات العسكرية الكبيرة التي تمت في أثناء الحرب.
– قد ينتج عن الإنفاق العسكري عوامل خارجية إيجابية لتكوين رأس المال البشري. فالجيش، على سبيل المثال، يسهم في تحسين رأس المال البشري من خلال توفير التدريب المهني والتقني، الذي يمكن استخدامه لاحقًا في القطاع الخاص.
– إنّ النفقات العسكرية (على سبيل المثال، الطرق والجسور والمطارات) تزيد رأس المال العام وتحسّن إنتاجية رأس المال الخاص، محفّزة الاستثمار والنمو.
والحجج الرئيسة التي أشارت إلى علاقة سلبية يمكن تلخيصها على النحو الآتي:
أ) إن الإنفاق العسكري – على غرار سائر الإنفاق الحكومي- يتطلب فرض ضرائب. والضرائب لا تؤدي فحسب إلى التقليل من حجم الموارد المتاحة للعملاء في القطاع الخاص، لكنها تؤثّر أيضًا، على سبيل المثال، على الأجور ومعدلات الفائدة الحقيقية، وبالتالي تشوّه القرارات الاقتصادية. علاوة على ذلك، إنّ الاستثمار الخاص سيتضرر، وهو عامل رئيس لتحقيق النمو الاقتصادي.
ب) إن الإنفاق العسكري قد يزاحم أنواعًا أخرى من النفقات الحكومية التي يمكن أن تخصص لتكوين رأس المال البشري ، مثل التعليم والصحة، أو لغيرها من مصادر الإنتاج الخارجي.
ج) إن الإنفاق العسكري قد يسبّب اختناقات في الطلب على العمال ذوي الكفاءات العالية ويأخذ الموارد بعيدًا من المدنيين في نشاطات البحث والتطوير. وبسبب انخفاض إنتاجية القطاع الحكومي فإنّ تحويل هذه الموارد من أغراض مدنية إلى أغراض عسكرية يمكن أن يكون له تأثير ضار في المدى الطويل على إنتاجية البلد، على الموقع التكنولوجي، وأيضًا على النمو(23).
في هذا الصدد، أشارت الدراسات في السبعينيات إلى وجود ارتباط إيجابي بين التسلح والتنمية. كما أن تفكك الكتلة السوفياتية وانتهاء الحرب الباردة دفع البعض للاعتقاد بأنّ خفض الإنفاق العسكري سينتج عنه “عائد السلام”. هذا التوقّع إستند إلى فكرة أن خفض الإنفاق العسكري سيؤدي إلى ازدهار إقتصادي. ولكن هذا التفكير، لم يلاقِ الدعم في الدراسات الاقتصادية. وفي الواقع، على الرغم من العديد من الجهود البحثية، لم يتم التوصل إلى استنتاجات قوية بشأن العلاقة بين الإنفاق العسكري والنمو الاقتصادي التي يمكن استخلاصها من المؤلفات الاقتصادية. إنّ تضارب النتائج دفع “تشان” إلى استنتاج مفاده أن إعادة النظر في ما كتب في هذا المجال “من المحتمل أنه يحيّر لكنه ينوّر”(24).
قد تكون المشاكل النظرية والمنهجية العديدة التي عانتها الأبحاث بشأن هذه المسألة هي السبب في عدم قوة نتائج الدراسات واتساقها وتضاربها بعضها مع البعض. معظم المحللين يعزو ذلك لثلاث مشاكل:
أولاً، عدم وجود نظرية قوية تُبنى عليها الدراسات الإختبارية (the empirical work) في هذا المجال؛ أي عدم وجود نظرية سليمة حول العلاقة التبادلية (trade-offs) بين الإنفاق العسكري والنمو. وعلى الرغم من أن هذه المشكلة معروفة بشكل عام، حاول عدد قليل من الدراسات إيجاد الحلول المناسبة لها. والواقع أن معظم الأبحاث إكتفى بالشروع أولاً بوصف بعض المسارات الظاهرية التي تربط الإنفاق العسكري بالأداء الاقتصادي، وبعد ذلك تحديد النماذج الاعتبارية المبنية على هذه التكهنات.
ثانيًا، القصور في تصميم البحوث، إذ اعتمد معظم الدراسات على تصاميم نموذجية مقطعية (cross-sectional designs). ومع إن هذه الطريقة تساعد في التحليل المقارن (comparative analysis)، لكنها تفشل في إظهار أهمية العنصر الديناميكي للعلاقة بين الدفاع والاقتصاد. ورفض “تشان” هذه الطريقة واعتبرها غير مناسبة لاختبار العلاقة بين الإنفاق العسكري والنمو. وبدلا من ذلك ، إقترح استخدام تصاميم طولية (longitudinal Designs).
والمشكلة الثالثة، هي أن العديد من الدراسات التي بحثت العلاقة بين الإنفاق العسكري والنمو الاقتصادي لم يأخذ بالحسبان إمكان أن يكون للإنتاج في قطاع الدفاع تأثيرات خارجية على الإنتاج في قطاعات الاقتصاد الأخرى، وبالتالي، قد يشكّل هذا جزءًا مهمًا من إجمالي تأثير نفقات الدفاع على الاقتصاد. فعلى سبيل المثال، إنّ تأثير العوامل الخارجية، كالانعكاسات التكنولوجية غير المباشرة، قد تكون إيجابية، في حين أن المضاعفات المترتبة مثلاً عن تحويل المدخلات الاقتصادية
(Economic Inputs) من القطاع المدني، قد تسبّب عوامل خارجية سلبية (Negative Externalities). وليس مستغربًا أن مختلف الدراسات التي أُنجزت في هذا المجال، اختلفت إلى حد بعيد، توقعاتها النظرية مع نتائجها التجريبية(25).
إن مسألة كيفية تأثير الإنفاق العسكري على النمو الاقتصادي، هي مهمة للأكاديميين ولواضعي السياسة العامة(26). والبحث في هذا الموضوع تقدم من الناحية النظرية والتجريبية على حد سواء، على مدى العشرين عامًا الأخيرة. فمن الناحية النظرية، حاول العديد من الباحثين تحديد القنوات التي من خلالها يؤثر الإنفاق العسكري على معدل النمو الاقتصادي، وذلك بالتركيز على آثار العرض والطلب الكليين. كما تنوّعت المنهجية المستخدمة في هذا المجال، و تضمّنت نماذج الاقتصاد القياسي المستخدمة: تحاليل مقطعية نموذجية (Cross Section Analyses) لمجموعة من البلدان مقابل تحليلات للسلاسل الزمنية لبلد واحد؛ نماذج بمعادلات واحدة (Single Equations) مقابل نماذج بمعادلات متعددة (Simultaneous Equations)؛ باستخدام عينات كبيرة أو تقسيم العينة وفق السمات الهيكلية الاقتصادية وغير الاقتصادية، واختبار ما إذا كان هناك سببية للإنفاق العسكري أو العكس.
كما تزايدت البحوث التجريبية بشأن العلاقة بين الإنفاق العسكري والنمو الاقتصادي على مدى العقود الثلاثة الأخيرة. فقد بدأت مع دراسة بينوا (1973) التي ضمّت 44 دولة نامية. وفيها أن للإنفاق العسكري أثرًا إيجابيًا على النمو الاقتصادي. وعلى الرغم من أنه يفترض أنّ العلاقة السببية تمتد من الإنفاق العسكري نحو النمو الاقتصادي،لم يستبعد احتمال أن يكون للنمو الاقتصادي تأثير على نفقات الدفاع. أثارت هذه الدراسة جدلاً واسعًا واهتمامًا من قبل الاقتصاديين، والدراسات التي أجريت في وقتٍ لاحقٍ قامت بتوسيع نطاق البحث للكشف عن إمكانية وجود أو عدم وجود علاقة بين الإنفاق العسكري والنمو الاقتصادي في المقام الأول. وإذا وجدت العلاقة، يبقى السؤال هو: أي من المتغيرين يؤدي إلى الآخر. وفي هذا المجال، جاءت نتائج هذه الدراسات التجريبية متفاوتة وغير حاسمة، بحيث كان هناك ما لا يقل عن أربع وجهات نظر حول وجود العلاقة بين الإنفاق العسكري والنمو الاقتصادي وطبيعته(27). هذا وقد تمثل الرأي الأول بمجموعة من الباحثين وجدوا أن هناك علاقة سببية إيجابية تمتد من الإنفاق العسكري نحو النمو الاقتصادي (أتيسوغلو ومولر 1990، بينوا 1973، 1978، كينيدي 1983، كابلين وآخرون، 1984، مولر وأتيسوغلو 1993أ،1993 ب؛ مردوخ وآخرون، 1997)، ومعيار حجة الباحثين في هذه المجموعة، هو أن نفقات الدفاع تحفز بصورة مباشرة النمو الاقتصادي عن طريق زيادة القوة الشرائية والطلب الكلي. ومجموعة ثانية من الباحثين وجدت علاقة سلبية بين الانفاق على الدفاع والنمو الاقتصادي (ديغير 1986؛ ديغير وشين 1983،1995؛ ديغير وسميث 1983؛ فايني، أنّيز، وتايلور 1984؛ ليبوفيك واسحاق، 1987؛ مينتز وهوانغ 1990 و 1991؛ سميث 1980؛ وارد وديفيس 1992؛ هيو 1998). فهذه المجموعة من العلماء وجدت أن الإنفاق العسكري يضرّ بالنمو الاقتصادي. لأنه في حال تمّ تمويل الإنفاق العسكري من الضرائب أو الاقتراض، فإنه سيحشد الاستثمار الخاص، وإلا ستحوّل الموارد بعيدًا من الإنفاق الحكومي الأكثر إنتاجية مثل التعليم والخدمات الصحية. أما أصحاب الرأي الثالث فقد وجدوا أن العلاقة السببية بين الإنفاق العسكري والنمو الاقتصادي هي ذو إتجاهين، أي إنّ نفقات الدفاع تؤدي إلى النمو الاقتصادي والنمو الاقتصادي يؤدي إلى ارتفاع الانفاق العسكري (كابيلين وآخرون 1985، وكوسي 1994). وأخيرًا، هناك رأي رابع بشأن القضية المطروحة، وقد خلص إلى أن الإنفاق العسكري لا يساعد ولا يعيق النمو الاقتصادي (بيسواس ورام 1986، غروبارو بورتر 1989؛ مينتز وهوانغ، 1990؛ الكسندر، 1990؛ شودري، 1991؛ كوسي، 1994؛ مينتز وستيفنسون، 1995)(28).
الإنفاق العسكري والنمو: إشكالية العلاقة التبادلية
البداية كانت مع بينوا (Emile Benoit) الذي وجد أن البلدان ذات العبء الدفاعي الثقيل لديها عمومًا معدلات نمو أسرع، والبلدان التي لديها معدلات نمو منخفضة تنفق أقل على الدفاع. فأشار بأن البرامج الدفاعية في معظم البلدان تساعد على النمو الاقتصادي من خلال:
(1) تأمين المأكل والملبس والمسكن لعدد من الأشخاص الذين، لولا ذلك، كان لا بد لهم من تأمين الطعام والمأوى والملبس من الاقتصاد المدني.
(2) توفير التعليم والرعاية الطبية والتدريب التقني.
(3) المشاركة في مجموعة متنوعة من الأشغال العامة مثل الطرق والسدود والمطارات وشبكات الاتصال التي يمكن أن تستخدم في المجالات المدنية.
(4) الانخراط في التخصصات العلمية والتقنية مثل الدراسات الهيدروغرافية ورسم الخرائط والمسح الجوي، وعلم القياس، وحفظ التربة، ومشاريع التحريج إضافة إلى بعض الأنشطة شبه المدنية مثل الإغاثة في حالات الكوارث(29).
واعترض بينوا على استخدام الاقتصاديين لمفهوم تكلفة الفرصة البديلة (Opportunity Cost) لقياس عبء التسلح، واعتراضه مبني على أن “الاستخدامات البديلة” يجب أن تعني الاستخدامات الواقعية (Actual) التي كانت الموارد ستخصص لها فعلاً، وليس الاستخدامات المثلى (Optimal) التي كان من الأفضل أن توجّه الاستثمارات نحوها، والتي هي في تصورات الاقتصاديين وأذهانهم ، ولكنها ربما لا تكون في أرض الواقع(30).
أما ديغير وشين (Deger & Sen) فأشارا إلى أنّ النفقات العسكرية تحوّل الموارد من الاستخدامات الأخرى ، وبذلك يكون لها تكاليف الفرصة البديلة مباشرة من حيث الاستثمار والاستهلاك، فضلاً عن بعض التكاليف في ميزان المدفوعات، لأن منظومات الأسلحة تتطلب قدرًا كبيرًا من الاستيراد. ومع ذلك ، عندما يكون الطلب الكلي أقل من إمكانات العرض، فإنّ النفقات العسكرية ستزيد من تشغيل العمال. وفي الدراسة التي أعدها ديغير وسميث (1983)، عن أقل البلدان نموًا، خلصت إلى أن النفقات العسكرية، لها آثار سلبية على النمو ، وبالتالي تعيق التنمية(31).
ومن ناحيتها، نيكول بول (Ball, Nicole)، انتقدت بينوا على أساس أن الفائدة من تقديم السلع والخدمات من القطاع العسكري ينبغي أن تقوّم على أساس مقارنة أسعار السلع والخدمات نفسها التي يقدّمها القطاع المدني أيضًا. وكما خلصت إلى أن ما من علاقة واضحة بين معدّلات النمو والإنفاق العسكري(32).
وبالنسبة إلى بول، لم يكن للنفقات العسكرية الدور الأساسي الذي لا يود أحد في الواقع، أن يراها تضطلع به، لأنه لو كان لإنتاج الأسلحة المحلي بعض الفوائد الممكنة مثل اقتصاد العملات النادرة، والتحكّم في التكنولوجيا، وإمكان تنفيذ سياسة تصنيعية من خلال الاستثمارات العسكرية التي لم يكن من الوارد تحقيقها، على أي حال، لأغراض مدنية، فإنه من الشائع أن يؤدي ذلك إلى منافسة بين القطاع العسكري والقطاع المدني في اختيار الاستثمارات. في هذه الظروف، ستظهر آثار الارتهان بشدّة، وتكاليف الفرص الضائعة غالبًا ما ستكون مرتفعةً جدًا بسبب الخيارات العسكرية التي تمّ اتخاذها. علاوة على ذلك، لا يمكن لأي بلد من بلدان العالم الثالث تحمّل مثل هذه السياسة، إذا لم يكن لديه قطاع صناعي قوي ومتنوّع. وحدها البلدان النامية الكبيرة، ولا سيما البرازيل وربما أندونيسيا، يمكنها أن تتحمّل ا?ثار المضاعفة الكافية من جهدها العسكري الذي تقوم به للتغلب على آثار الارتهان الذي يمارسه القطاع العسكري على القطاع المدني. وأخيرًا، إنّ تطوير مصانع الأسلحة في البلدان النامية يؤدي أيضًا إلى زيادة في الإنفاق العسكري التي، على المدى الطويل، قد تثير صعوبات كبيرة في التنمية الاقتصادية الوطنية (33).
فهذا التناقض الظاهر في الدراسات حول آثار الإنفاق العسكري على النمو الاقتصادي دفع كابلين، وغليديتش، وبيرخولت
(Cappelen, Gleditsch, Bjerkholt) العام 1984 في محاولة للتغلّب على هذه المعضلة، بتجميع بيانات غطت عدة قطاعات لفترات زمنية ضمن إطار نموذج للنمو الاقتصادي. كانت البيانات عن 17 دولة من دول منظمة التعاون الإنمائي والاقتصادي للفترة 1960-1980. وقد وجدوا أن للإنفاق العسكري تأثيرًا إيجابيا على الناتج الصناعي، ولكن تأثيره سلبي على الاستثمار. وهذان التأثيران لهما دور معاكس على النمو الاقتصادي لجميع البلدان في العينة، باستثناء بلدان منطقة البحر الأبيض المتوسط(34).
وبالنسبة إلى فريدركسن ولوني (Frederiksen & Looney)، فإن العامل الحاسم في العلاقة بين الإنفاق العسكري والنمو الاقتصادي يعتمد على الموارد المالية للدولة. ووفق هذين الباحثين، عندما تكون الموارد المالية محدودة، يواجه البلد دائمًا تخفيضات في ميزانيته. وهذه التخفيضات توقف، في كثير من الأحيان، المشاريع الإنمائية لمصلحة البرامج الدفاعية. وهكذا، يفترض فريدركسن ولوني بأن في البلدان المحدودة الموارد تكون العلاقة بين الإنفاق العسكري والنمو الاقتصادي سلبية، في حين أن الإنفاق العسكري يكون له آثار إيجابية على النمو الاقتصادي في البلدان ذات الموارد غير المحدودة. وكانا أجريا تحليلاتهما على 37 بلد من البلدان النامية بين العامين 1950 و1965(35).
فرأى لوني (Looney) أنّ النفقات والصناعات العسكرية ليست أفضل الخيارات الاقتصادية التي يمكن للدول اتخاذها من حيث تكاليف الفرص الضائعة، وأنّ الإنفاق العسكري لم يساهم سوى بشكل طفيف في نمو ديون العالم الثالث. كما أن زيادة القدرة على إنتاج الأسلحة وتوافر الموارد يؤدي إلى علاقة إيجابية بين الإنفاق العسكري والنمو الاقتصادي في بلدان العالم الثالث. وخلصت نتائج دراساته التجريبية إلى أن تأثيرات البيروقراطية السياسية الداخلية للبلد هي أكثر أهمية من المنافسات الدولية، والبيئة الاقتصادية في الدول المنتجة للأسلحة تختلف اختلافًا كبيرًا عن الدول غير المنتجة للأسلحة(36).
أما ليم (Lim) فقد درس هذه العلاقة في 54 بلدًا من البلدان النامية: 21 في أفريقيا و 13 في نصف الكرة الغربي، و11 في آسيا، و9 في منطقة الشرق الأوسط وجنوب أوروبا للفترة 1965- 1973، توصل إلى أن لنفقات الدفاع تأثيرًا سلبيًا كبيرًا على النمو. ولكن عندما أجرى تحليله على صعيد المناطق ، جاءت النتائج سلبية في أفريقيا ونصف الكرة الغربي فقط(37).
كما أجرى فايني وتايلور (Faini &Taylor) اختبارًا تجريبيًا على 69 بلدًا بين العامين 1952 و1970، وخلصا إلى أن التأثير السلبي للإنفاق العسكري واضح على النمو الاقتصادي. كما وجدا أن التوسع في الصادرات مرتبط بشكل إيجابي بالنمو الاقتصادي. كما أن النمو السكاني، باستثناء أفريقيا، يرتبط بشكل إيجابي بالنمو الاقتصادي(38).
ورأى جوردينغ (Jeording) أنه على الرغم من أن العديد من الدراسات السابقة افترض أن الإنفاق العسكري يسبق النمو الاقتصادي، فالعلاقة العكسية قد تكون صحيحة أيضًا. وهذه الخلاصة هي ثمرة تجارب حول العلاقة السببية بين الإنفاق العسكري والنمو الاقتصادي أجراها على 57 بلدًا من البلدان النامية. كما وجد أيضًا أنّ الإنفاق العسكري ليس له أي دلالة إحصائية سببية في تأثيره على النمو الاقتصادي، خلافًا لبينوا الذي رأى أن النمو الاقتصادي يسبب الإنفاق العسكري(39).
وبدورهما راتي وبيسواس درسا العلاقة بين الإنفاق العسكري والنمو الاقتصادي في 58 بلدًا ناميًا
( 17 ذات الدخل المنخفض، و 41 ذات الدخل المتوسط) بين العامين 1960 و1970، ومن العام 1970 حتى ،977. فتبيّن لهما أن الإنفاق العسكري له تأثير إيجابي على النمو الاقتصادي في كل البلدان في العينة. ولكن عندما قُسّمت العينة إلى مجموعتين، واحدة ضمت البلدان المنخفضة الدخل، وأخرى البلدان المتوسطة الدخل، تبيّن أن مجموعة البلدان المتوسطة الدخل أظهرت تأثيرًا إيجابيًا. وفي سبيل إختبار مدى تأثير العوامل الخارجية على الانفاق العسكري، طوّر الباحثان نموذجًا من قطاعين: الدفاعي والمدني. سمح هذا النموذج بإدخال حجم قطاع الدفاع في وظيفة إنتاج القطاع المدني ، مما ساعد على إظهار تأثير قطاع الدفاع على القطاع المدني. إلا أن هذا النموذج أظهر عدم وجود دلالة إحصائية كبيرة حول تأثير الانفاق العسكري على نمو إجمالي الناتج(40). غير أن الكسندر، بيسواس وراتي إنتقدوا هذا النموذج لتغييبه بعض المتغيرات ذات الصلة، الأمر الذي أدى إلى حذف بعض الروابط الاقتصادية المهمة (41).
وقام مينتز وستيفنسون (Mintz & Stevenson) بإجراء دراسة تبحث في الأثر المباشر للإنفاق العسكري وتداعياته في أكثر من مئة دولة، وخلصا الباحثان إلى أنه في غالبية هذه البلدان (92 من 103) ، لم يكن للنفقات العسكرية أثر كبير على النمو الاقتصادي. كما أنه يمكن لمستوى التنمية في البلد أن يكون أيضًا عاملاً هامًا في تحديد العلاقة بين الإنفاق العسكري ومتغيرات الإقتصاد الكلي الأخرى. ففي البلدان النامية، إن المركّب الصناعي- العسكري يمكنه استغلال الطاقات الإنتاجية غير المستخدمة بشكل كاف، وخلق الطلب الفعال للمصانع التي لم يوظّف رأس المال فيها بشكل كاف أيضًا.كما يمكن لهذا المركّب أن يساهم في التطوير المحلي للقدرات القيادية ولإدارة المؤسسات، وكذلك تطوير قطاع البحث العلمي والتقني، والشروع في تحديد آلية لإعادة توزيع الدخل. وفي المقابل ، في حال حصل إلتزام التنمية الاقتصادية ، فإنّ تكلفة فرص الاستثمار التي تم تجاهلها ترتفع مقارنة بتكلفة الاستثمار في القطاع العسكري ، مما يقلل من احتمال النمو. كما خلصا إلى عدم وجود علاقة كبيرة بين الانفاق العسكري والإقتصاد على المدى القصير، حتى عند النظر في الآثار الخارجية على حدة(42).
وبدوره تحقق هيو (Heo) من كيفية تأثير التغيرات التي تطرأ في العبء الدفاعي على النمو الاقتصادي من خلال اختبار الآثار الاقتصادية للانفاق العسكري على النمو في 80 بلدًا، وخلص إلى أن ثلثي هذه البلدان قد تتوقع “عائد السلام” بسبب العلاقة السلبية بين الإنفاق العسكري والنمو الاقتصادي(43).
كما رأى ماكنير (Macnair) وآخرون (1995)، أن القطاعات الحكومية غير الدفاعية ستحقق تأثيرًا أكبر على النمو مما قد يحققه قطاع الدفاع. وباستخدام البيانات المجمعة عن آسيا وأميركا اللاتينية في فترة 1955- 1988،خلص مردوخ
(Murdoch) وآخرون (1997) إلى أنه، في حال تمّ نقل دولارًا واحدًا من القطاع غير الدفاعي إلى النفقات الدفاعية في المجموعة الآسيوية، فإن الإنتاج سيزيد 175,1 دولارًا. في المقابل، في دول أمريكا اللاتينية، في حال تمّ نقل دولارًا واحدًا من القطاع الدفاعي إلى النفقات العامة غير الدفاعية فإن الإنتاج سيزيد 0.280 دولار(44).
وفي دراسة أعدها غالفين (Galvin)، أشارت النتائج التجريبية إلى أن الإنفاق العسكري له تأثير سلبي على كل من معدل النمو الإقتصادي والدخل ونسبة الإدخار، وأن التأثير هو أكبر في الدول ذات الدخل المتوسط التي قد تكون أقل إستفادة من تأثيرات قطاع الدفاع غير المباشرة. و أشارت النتائج أيضًا إلى أن العوامل الاستراتيجية تحدد، مثل القيود الإقتصادية، نفقات الدفاع في البلدان النامية. والحجة الإقتصادية التي تدعم الاقتباس أعلاه، يعتمد إلى حد كبير على الأقتناع بأن النفقات العسكرية تضغط على الاستثمارات المدنية الأكثر إنتاجية، وإذا كانت الواردات العسكرية كبيرة، فإنها تخلق مشكلة في ميزان المدفوعات(45).
وفي هذا الصدد، إكشف جفري وإدوارد (Jeffrey & Edward)، في دراستهما العام 2008 بعدًا جديدًا للإنفاق العسكري، يوضح هذه المسألة، وذلك من خلال تسليط الضوء على النفقات العسكرية لكل جندي، التي تستحوذ على كثافة رأس المال للتنظيم العسكري في البلد. شملت الدراسة البلدان المتقدمة والبلدان الأقل نموًا في الفترة من 1990 إلى 2003 وتوصلت إلى أن النفقات العسكرية تكبح نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي. وكان هذا التأثير أكثر وضوحًا في البلدان الأقل نموًا. وتكبح هذه النفقات أيضًا التنمية الوطنية بتبطيء توسع قوة العمل. إن عمالة العسكريين المكثفة قد توفر سبيلاً للمضي قدمًا، ولكن كثافة رأس مال المنظمات العسكرية تحد من فرص الدخول لغير المهرة وللعاطلين عن العمل. والاستثمارات الكبيرة في المعدات العسكرية تخفض أيضًا رؤوس الأموال الاستثمارية المتاحة لمزيد من الفرص المنتجة اقتصاديًا. ووجدت الدراسة أيضًا أن واردات الأسلحة لها تأثير إيجابي على النمو الاقتصادي، ولكن فقط في البلدان الأقل نموًا؛ فهي تحفز نمو القوى العاملة في البلدان الأقل نموًا، غير أنه ليس لها تأثير كبير على قوة العمل في عينة أكبر(46).
Comments are closed.